قصة الخمس دنانير (الجزء الأخير)
يومها كنت في الحافلة متجهًا من قريتنا الفلاحية إلى إحدى المدن القريبة، وكان يجلس خلفي صبيان عمرهما لا يتجاوز على ما يبدو سبعة أعوام، سمعت أحدهما يحدث الآخر قائلًا له: هذا العام شحَّت السماء، والخريف يوشك أن ينصرم، والأرض لا تُنبت شيئًا، وأبي فلاح فقير ليس بيده ما ينفقه عليَّ، ولذلك فأنا مضطر لترك مقاعد الدراسة هذا العام!!
لمّا سمعت الطفلين يتحدثان عن الفقر والحِرمان بهذا الوعي الذي لا يدركه إلا الكبار، تأثرت وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت!!
وعلى الفور أخرجت من جيبي ( خمسة دنانير ) وأعطيتها للصبي، وقلتُ له: خذ هذه الدنانير، والمبلغ آنذاك يفي لشراء الأدوات المدرسية كلها..
رفض الصبي أخذ الدنانير، فقلت له: ولماذا يا ولدي!؟ قال: ربما يظن أبي أني سرقتها؟ قلت: قل له فلان بن فلان أعطاني إيّاها لشراء الأدوات المدرسية، فإن أباك يعرفني تمام المعرفة..
تهللت أسارير الطفل وتناول ( الدنانير الخمسة ) وابتسم ابتسامة الرضا والسرور ودسّها في جيبه..
ونسيت من يومها هذا الموقف مع ذاك الصبي.
قال الرجل: أنا يا عم ذاك الصبي، ولولا تلك الدنانير الزهيدة لما أصبحت اليوم بروفيسورًا في أكبر مستشفى بالجزائر..
وها قد التقينا بعد أن منَّ الله علي بأعلى المراتب في أنبل وأشرف المهن، فقد افترقنا سنة 1964 وها نحن نلتقي سنة 1994، بعد 30 سنة بالتمام والكمال!!
والحمد لله أن قدرني لأرد لك بعض الجميل..
يا عم، ( الدنانير الخمسة ) التي أعطيتها لي، صنعت مني بروفيسورًا في الطب..
يا عم، والله لو أعطاني أحد كنوز الدنيا لما فرحت بها الآن كفرحي يومها بتلك الدنانير الزهيدة.
يا عم، أفضالك عليَّ كبيرة، والله مهما فعلت فلن أرد لك الجميل.
فأسأل الله أن يجازيك خير الجزاء في الدنيا، والأجر الكبير في الآخرة.
صنائع المعروف تقي مصارع السوء..
وكما تَدين تُدان.. وكل ساقٍ سيُسقى بما سقى يومًا ما