رحلة إلى العالم الآخر (الجزء الأخير)

وأنا أقول: “يا رب، ليكن هذا الفخ لصيد غزال هذه المرة، لقد تعبت من تناول الأسماك التي نصطادها من البحيرة، منذ آخر مرة صادنا فيها غزالًا في الغابة.”

لكنني ما زلت مشجعًا نفسي ومتوكلاً على الله لأكمل ما بدأته. اقتربت من الباب وفجأة، وقعت قدماي في فخ مخبأ وتم سحبي بواسطة الحبل لأعلى، حتى أصبحت قدماي معلقتين في الهواء ورأسي معلقًا للأسفل. قلت لنفسي: “اللهم ارحمني”، يبدو أن النهاية قد حانت والموت يقترب، سواء بسبب الجوع أو بواسطة أشخاص وضعوا الفخ، بغض النظر عن هويتهم.

وبعد مضي وقت قصير، شعرت بأقدام تقترب ببطء، فسرعان ما بدأت أردد الشهادة واستعيذ بالله من أي خطر قد يواجهني. وفيما أنا كذلك، سمعت صوتًا يتحدث من بين الضباب المتلاشي.

فجأة، وبينما الأقدام تقترب أكثر فأكثر، ظهر أمامي رجلان يبدوان كسكان بدائيين. تحدث أحدهما إليّ قائلاً: “من أنت؟ ومن أين جئت؟” ورفع رمحًا مصنوعًا من الخشب والحجارة في وجهي.

عندما قلت له اسمي أحمد جمال الدين إبراهيم، سألني إن كنت ابن أخيه. رد الاثنان بسرعة بفك وثاقي وقالا لي: “نحن الاثنان هبطنا من منزلنا منذ وقت طويل، ووصلنا إلى هنا وحاولنا العثور على مخرج، لكننا كنا صغارًا في ذلك الوقت. اضطررنا للعيش هنا ومواجهة التحديات والصعاب. ولكن بفضل الله، تمكنا من تجاوزها. يا ليت تشاركنا تفاصيل ما حدث طوال تلك الفترة وكيف وصلت إلى هنا بالضبط.”

بعد أخذ نفس عميق، أبلغتهما بأن والدتي أخبرتني عن مصيركما الغامض، ما دفع فضولي لاستكشاف الحجرة المغلقة منذ اختفائكما. هبطت من الفتحة التي ألقتني في الماء واكتشفت وجود عملة معدنية في الأعماق. قدمتها لأحدهما وهو مبتسم، فقال:

“هذه العملة كانت في جيبي عندما صعدنا من الماء واسترحنا. لولا تدريبنا على السباحة في النيل منذ صغرنا، لما تمكنا من الوصول إلى هنا. عندما وصلنا إلى هذا المكان، جمعنا أخشابًا وبنينا الكوخ الذي عشنا فيه طوال تلك الفترة.”

نجحنا في إشعال النار باستخدام الحجارة، وكنا نقوم بجمع الثمار وصيد الأسماك من البحيرة التي ينبعث منها المجرى الذي جئت منه، إذ كانت تقع على مقربة من هنا. وهناك بعض الغزلان التي تعيش في هذه المنطقة، ولكن من الصعب أن نصطادها. لم نغامر بالتوجه عميقًا في الغابة، بل فضلنا البقاء قرب موقع هبوطنا، عسى أن يصل إلينا شخص ما. وها أنت تقف أمامنا بعد سنواتٍ عصيبة مرت علينا.

نظرت إلى عمي إبراهيم وأخبرتهما: “يجب أن نبحث عن مخرج، يجب أن يكون هناك طريقة للعودة.”

فرد عمي إبراهيم: “هل أنت واثق من ذلك؟”

أشرت إليه برأسي بالتأكيد  نعم.

تأكدت من صعوبة أن يكون هذا المكان بعيدًا جدًا عن الأرض، وكيف يُمكن للهواء والحيوانات المائية وغيرها أن تتواجد هنا؟

جهزنا أدواتنا وأغراضنا التي جمعها عمي خلال إقامتهما، وبدأنا في استكشاف الغابة.

لا يوجد لدينا مفهوم لليل والنهار في هذا المكان، حيث أن الضوء مُتلاشٍ ولا نعرف مصدره بالتحديد. المكان لا يعتمد على الشمس كمصدر للإضاءة، لذا كان لديَّ فقط هاتفي المحمول لمعرفة الوقت.

واجهنا أمورًا غريبة خلال رحلتنا، وكلما تقدمنا، زاد خوفنا من أن يكون المخرج بعيدًا أو أننا نبحث في المكان الخطأ.

بعد فترة طويلة، تقريبًا يوم كامل، اكتشفنا شيئًا غير متوقع وصعب تصديقه لعيوننا.

كانت هناك قرية صغيرة في وسط الغابة، وفي البداية شعرنا بالخوف واختبأنا وراء الأشجار. فجأة، ظهرت رمحًا متوجهًا نحونا، ورجل يحمل آلة تشبه الماسورة المصنوعة من الخشب وتحمل أسهم صغيرة. رفعنا أيدينا وألقينا رماحنا واستسلمنا، فكانوا يتحدثون اللغة العربية الفصحى. قال أحدهم:

“تقدموا أمامنا ولا تحاولوا الهروب لئلا يحدث لكم أي ضرر.”

سلكنا الطريق باتجاههم، حتى أوقفونا أمام باب، دخل أحدهم وخرج بعد ذلك ليطلب منا الدخول.

عندما دخلنا، واجهنا ثلاثة رجال كبار في السن، كانت لحاهم بيضاء ناصعة.

قلت بتودد: “السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.”

ردوا على التحية وقال أكبرهم: “كيف وصلتم إلى هنا؟”

أوضحت له ما حدث لي ولأعمامي، فعبّر عن استغرابه قائلاً: “إذًا هناك مدخل آخر غير الذي نعرفه!”

أمر بأن يتجهز عشرة رجال ليذهبوا ويقوموا بإغلاق ذلك المكان بسرعة.

ثم أوضح قائلاً: “نحن هنا لحراسة بوابة الشر، خوفًا من أن تتسرب إلى العالم الخارجي، ولا نسمح لأحد بالخروج منها. لم نكن ندرك وجود هذا المكان الذي جئتم منه، وبفضلكم تعرفنا عليه وسنقوم بإغلاقه ومنع أي شخص من الدخول. ثم سألنا:

هل ترغبون في العودة بسلام إلى أهلكم؟”

أجبنا قائلين: “نعم، نرغب في العودة بسلام.”

أجاب قائد القرية: “سأرسل معكم دليلًا يخرجكم من مكان للخروج لا يمكن لأحد أن يدخل منه، ولكنه مصمم للخروج فقط.” ثم همس إلى أحدهم، وذهب وجلب ثلاثة صناديق خشبية مغلقة.

ثم قال: “هذه هدايا منا لإبلاغكم بالمدخل الذي جئتم منه.” سارعت وقلت: “شكرًا جزيلاً، ولن نخبر أحدًا بمكانكم.”

ابتسم وقال: “لا داعي للقلق، لن يصدقك أحد إذا قلت ذلك.” ثم أمر بأن يأخذ الدليل ويغادر.

ساروا معنا وبينما نبتعد عن القرية، رأينا بوابة ضخمة جداً مغلقة بسلاسل ضخمة، وخلفها سمعنا صراخًا وأصواتٍ عالية متداخلة. حاولت أن أستفسر من الدليل، فقال بنبرة حادة: “لا تسأل، فهذا لا يخصك، وأفضل لكم ألا تعلموا.”

ومضينا بعيدًا حتى وصلنا إلى فتحة داخل الجبل، دخلناها ومشينا داخلها لمسافة طويلة حتى وصلنا إلى فوهة عالية، وهناك وجدنا صندوقًا معلقًا بما يشبه البالون. قال الرجل: “ستركبون هذا، سنملأه بالبخار وسيطرحكم في الهواء.” ثم فتح صخرة في الزاوية، وخرج منها بخار ساخن ملأ البالون، فارتفعنا إلى أعلى، إلى أعلى، إلى أعلى، حتى رأينا السماء.

ثم بدأ البالون ينزل ببطء، ولم نستطع أن نحدد من أي مكان نحن قادمون. لكننا هبطنا على الأرض، ووجدنا طريقًا، لكن المركبات كانت نادرة جدًا على هذا الطريق.

بعد فترة، وجدنا شاحنة كبيرة، فأوقفناها وسألنا سائقها عن المكان. أجابنا قائلاً: “أنتم الآن في هضبة الجلالة. أنا في طريقي إلى بلدنا.” فطلبنا منه أن يأخذنا معه، وركبنا الشاحنة، ونحن نسابق الزمن لنصل إلى أهلنا.

وأخيرًا وصلنا، وكانت الليلة متأخرة جدًا بعد تناولنا العشاء.

الطرق خالية من أي شخص، وعندما وصلنا إلى منزلنا، وجدنا الباب مغلقًا، لكن أفراد عائلتنا كانوا جميعًا مستيقظين.

قمت برفقة عمي علي وعمي إبراهيم بطرق الباب، وسمعت صوت أمي تسأل: “من هو؟”

فأجبت: “أنا، أحمد، يا أمي، ومعي عمي علي وعمي إبراهيم.”

فجاءت أمي بصوت مرتفع ونادت على أبي قائلة: “يا جمال، هناك ضجيج على الباب، ضجيج من الأرواح الشريرة، أرواح الأموات عفاريت!!

حضر أبي وجدي وصوتاهما يصدران من خلف الباب، يسألان: “من هو؟” فأجبت بنفس الجملة.

ثم فتح الباب، وإذا نحن الثلاثة واقفين. دخلت أنا أولاً، وحضنني أبي وصفعتني بلطف على عيني، وقال: “أين كنت؟ لقد بحثنا عنك في كل مكان ولم تغمض لنا عين منذ اختفائك.”

دعوت عماي للدخول، وتفحصوا الجميع بقلق، وكان عماي يبكي والزغاريد تصدح في المنزل احتفالًا بعودتنا.

دخلنا جميعًا، وجاء الجيران ليهنئونا، وتحوّل المنزل إلى مكان احتفال وسعادة. حكيت لهم تفاصيل ما حدث لنا، وكل واحد منهم كان يصفع يده بالأخرى وكأنه يصدق مغامرتنا الخيالية. ولكن، كان الأهم بالنسبة للجميع هو عودتنا والسهر حتى الفجر، مفتخرين ومسرورين.

أنا كنت أفكر في كل ما حدث وفي الهدية التي أخذتها. قررت أن أخبئها حتى يهدأ المنزل الذي امتلأ بالفرح والبهجة، وكأننا نعيش في حلم.

وهكذا انتهت رحلتنا إلى المجهول في مغامرتها الأولى. هذه هي النهاية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى